تختزل مأساة الطبيب عز الدين أبو العيش من مخيم جباليا قصة المحرقة في قطاع غزة فيما تجسد حكاية عائلته النكبة الفلسطينية بكل تجلياتها. ولليوم السابع يمضي د. عز الدين أبو العيش (53) الذي فقد ثلاثاً من بناته جراء استهداف منزله في جباليا متنقلا بين عيادة ابنته وشقيقه وابنته في أقسام مختلفة داخل مستشفى “تل هشومير” في “تل أبيب” ومتابعة شؤون ما تبقى من أطفاله في غزة والتحدث لوسائل الإعلام.
وتستفز أبو العيش حتى الجنون رواية الجيش حول إطلاق نار على قواته من جهة منزله ولا يستبعد قيام الجنود باستهداف غرفة بناته عمدا الجمعة الماضية واقتراف مذبحة بثت تبعاتها القناة العبرية العاشرة ببث حي.
داخل غرفة الانتظار في “تل هشومير” رافقنا أبو العيش فروى ل “الخليج” أن منزله الواقع في شارع صلاح الدين شمال جباليا معروف لكل الناس وللجيش ويكشف أنه بوساطة وسائل إعلام عبرية كانت تتحدث معه يوميا سحب الجيش دبابة كانت مرابطة قبالة بيته موجهة مدفعها نحوه وجعلته يرى الموت بعينيه كل صباح ويضيف “أرجح الاستهداف المتعمد من قبل جنود بليدي الإحساس تلقوا أوامر من الجيش بحرق الأرض في غزة، ولذا أطالبهم بالكف عن الكذب والشروع بتحقيق يستخلصون منه الدروس على الأقل، وكلي أمل أن تسهم مصيبتي في وقف شلال الدم”.
الابنة المدللة
بعيون ملؤها الاحمرار والغضب يستعيد أبو العيش ما جرى فيقول إنه كان يلاعب طفليه داخل المنزل قبيل استهدافه. ويتابع “كنت أتجول داخل البيت وابني محمد (6 أعوام) على كتفي فيما يدفعني من الخلف ابني عبد الله (12 عاما)، وما إن غادرت غرفة البنات ودخلت الصالون حتى سمعت دوي انفجار وما هي إلا لحظات حتى تكشفت المجزرة المهولة”.
ويشير الطبيب الذي توفيت زوجته مرضا قبل ستة شهور إلى أنه سارع لتفقد بناته الست فكانت الصاعقة، لقد تحولن إلى أشلاء تغرق بالدماء والغبار، لحظات واستهدف البيت بقذيفة ثانية جرحت آخرين من عائلته. ويضيف “صرت أصرخ كالمجنون وأشعر كأنهم يقومون بذبحي بسكين وكنت بشكل عفوي أبحث عن بيسان، ابنتي البكر المدللة، متمنيا أن أجدها على قيد الحياة لكنني عثرت عليها جسدا ممزقا”.
واستشهدت جراء القصف الشقيقات بيسان (20 عاما)، ميار(15 عاما)، آية (14 عاما) وابنة عمهن نور (14 عاما)، كما أصيبت ابنتا الطبيب شذا ورفا وجرح شقيقه عطا وابنته رائدة بجروح متوسطة- خطيرة، بينما أصيب شقيقه شهاب الدين بجروح بالغة.
مأساة بالبث الحي
بعدما عد الجثث، لم يجد أبو العيش من يغيثه، حيث غادر الجيران منازلهم، فهاتف مراسل القناة “الإسرائيلية” العاشرة لشؤون قطاع غزة، شلومي إلدار الذي نقل صرخته في بث حي ومباشر وما لبث أن ترك غرفة البث وسارع للاتصال بقادة الاحتلال للسماح بإسعاف الجرحى ونقلهم. ويتابع “سار بعض اخوتي نصف كيلومتر حاملين راية بيضاء طيلة ساعة في انتظار سيارة الإسعاف الممنوعة من التقدم نحونا من قبل جنود الاحتلال فنقلوا الجرحى مشيا على الأقدام”. ولاحقا أكد إلدار أن نقل صرخات ودموع أبو العيش بالبث الحي ومن ثم متابعتها بوسائل إعلام أخرى أحرجت “إسرائيل” وزعزعت ثقة “الإسرائيليين” بالحرب، وقال إنها وضعتهم عراة قبالة المرآة.
أبو العيش الذي قضى الكثير من أيامه في العمل في مستشفيات “إسرائيلية” طبيب نساء ومختصاً كبيراً بطب الجنين يتوقف عن سرد مأساته ويتساءل “كان أهالي غزة يغبطونني على دماثة خلق بناتي وتفوقهن في المدارس، أليس حراما أن يذبحن من دون ذنب؟ والله “إسرائيل” لم تقتل بناتي فحسب بل قتلت كل ما هو جميل في هذه الدنيا”.
ويستذكر الوالد أحلام بناته التي قطعها الحقد “الإسرائيلي”، فيقول إن بيسان كانت تشارف على إنهاء دراستها الجامعية في التجارة وإدارة الأعمال، فيما حلمت آية بأن تصبح صحافية أما ميار فطالما حلمت بامتهان الطب ويضيف “أما شذا المصابة في عينها فعادت في أحد أيام العام الماضي باكية ولما سألتها عرضت علي شهادتها الفصلية وهي بمعدل 98 فهي تتطلع لتحصيل مائة في المائة لتكون الأولى في التوجيهي بكل فلسطين”.
شارون طردهم من البيت
وينوه أبو العيش إلى أنه طيلة أيام الحرب كان يحرص على تفادي نوم أسرته في غرفة واحدة ويضيف “كنا نفترش الأرض خوفا من القذائف فأضع كل بنتين خلف جدار واحد لكن القذيفة سفحت طفولتهن”.
أبو العيش الذي يوزع وقته في عمله كطبيب مختص بين المستشفيات الفلسطينية و”الإسرائيلية” ينتمي لعائلة هجرت عام 48 من قرية هوج حيث تقام عليها مستوطنة “حفاة هشكميم” التابعة لأرئيل شارون وولديه.
وينوه أبو العيش الذي يرى نفسه “رسول سلام” ومتشبثاً بإنسانيته إلى أن أرئيل شارون لم يكتف بسلب أرض الآباء والأجداد فأمر في السبعينات عائلته بإخلاء بيتها المكون من غرفتين في جباليا حينما كان قائد لواء الجنوب في جيش الاحتلال بحجة شق شارع. ويضيف “طلبت أمي منحها الفرصة لالتقاط قطوف العنب من الدالية قبل اقتلاعها حيث كانت بالنسبة لها رأسمالها فيما قمنا وأبي باستصلاح بعض حجارة الطوب لنبني بها غرفة تؤوينا ولك أن تتخيل أسرة مباركة الأولاد من دون بيت”.
متمسك برسالته الإنسانية
ورغم هول المأساة لم يفقد أبو العيش توازنه ويصر على مواصلة رسالته الإنسانية فيقول “أشعر أكثر بالمسؤولية لإيصال رسالة شعبي أننا طلاب حق وسلام، كرست حياتي للسلام والتعايش بين الشعبين فأصابتني هذه القذيفة في سويداء القلب والأصعب فريتهم بأن نيرانا استهدفت جنودهم من جهة منزلي”. ويأمل ألا يذهب دم بناته هدرا، ويقول إنه لم ينم منذ أسبوعين إلا ساعات قليلة.
وروى شقيقه الصيدلاني عطا أبو العيش المعالج في “تل هشومير” أنه كان يجلس وعائلته في الطابق الرابع حينما دوى الانفجار وتعالت صيحات الوجع والخوف. وقال إنه سارع لمنزل شقيقه فحمل بيسان المصابة بين يديه وهي تقول، قبل لفظ أنفساها، “الحقني يا عمي الحقني يا عمي”، ويتابع “وفجأة قصفوا البيت بقذيفة ثانية فأصبت بظهري وسقطت وبيسان أرضا ولاحقا زحفت على ركبتي ونزلت نازفا الدرج من الطابق الثاني حتى ارتميت عند باب العمارة وتشهدت قبل أن يغمى علي”.
شذا تحت الصدمة
شذا ابنة الخامسة عشرة ما زالت تتلقى العلاج في قسم العيون في “تل هشومير” مصابة بجروح غير خطيرة لكنها لا تقوى على الكلام بفعل الصدمة بعدما رأت بأم عينيها كيف تمزقت أجساد شقيقاتها وأقربائها ويعوض قلة الكلام بينهما تقبيلها المتواصل.
قبيل ذاك اليوم المشؤوم، رفض الطبيب انتقاله وأسرته لمدارس وكالة الغوث (أونروا) أو إلى أماكن أخرى أبعد عن التماس وخط النار وتابع “إلى أين أذهب بهن فبناتي صبايا وهن كل حياتي ومن غير المعقول رميهن للشارع؟ كما أن بناتي ذهبن يوما لأحد أقاربنا في منطقة أبعد لكنهن عدن بسرعة فالازدحام وشروط الحياة هناك غير محتملة”. ويؤكد أنه يحب بناته أكثر من ولديه محمد وعبد الله، ويقول “بناتي أجمل ما في الوجود”.[right]